منهج السلف الصالح في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم – الإمام مالك بن انس نموذجا
تظافرت آراء علماء الأمة قديما وحديثا على أن نصرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليست ادعاء يدعيه المسلم ؛ بل هي منهج حياة ينبغي أن تنطبع به حياتنا ؛ ونتبع فيه سنة رسول الله صلى عليه وسلم ونقيم دعائم دين الله الحنيف حتى نلقى حبيبنا وقد فرح بصنيعنا .
وإذا كان حال الأمة لايصلح إلا بما صلح به سلفها .فإن ما حدث ويحدث لنا من تدهور وتطاول على مقدساتنا ليتطلب منا وقفة تأمل في حال من سبقنا من الرعيل الأول ؛ والذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية في قوله " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " .
وقد وقع اختياري على الفقيه المحدث إمام دار الهجرة مالك بن انس كرمز مشرف لسلفنا الصالح . لماذا ؟ لأنه أثارني بسيرته وحسن أدبه وتعامله مع حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .إلى جانب انه جمع علم الصحابة والتابعين، وكان أكثرهم علماً، وأتقاهم لله، وأحسنهمخلقاً، وأعظمهم عقلاً ، كما شهد له أهل عصره بالاتفاق ، قال الإمام الشافعي: ”إذا ذكر العلماء فمالك النجم“
وقال الإمام أبو حنيفة: ”ما رأيت أسرع من مالك بجواب صادق، مع زهدتام“أماالإمام أحمد بن حنبل فقال فيه : ”مالك سيد من سادات أهل العلم، وهو إمام في الحديث والفقه،ومن مثل مالك متبع لآثار من مضى، مع عقل وأدب... مالك حجة بينك وبين اللهتعالى“
ويكفيه فخرا عن كل هذا أن ذكره ورد على لسان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة يبلغ به النبي (صلى الله عليه وسلم) قال "ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة" أخرجه أحمد والترمذي والنسائي في مصنفه وابن عبد البر في تمهيده وابن حيان في صحيحه.
قال أبو عبد الله الحاكم ما ضربت أكباد الإبل من النواحي إلى أحد من علماء المدينة دون مالك واعترفوا له وروت الأئمة عنه ممن كان أقدم منه سنا كالليث عالم أهل مصر والمغرب والأوزاعي عالم أهل الشام ومفتيهم، والثوري وهو المقدم بالكوفة ،وشعبة عالم أهل البصرة إلى أن قال وحمل عنه قبلهم يحيى بن سعيد الأنصاري حين ولاه أبو جعفر قضاء القضاة فسأل مالكا أن يكتب له مائة حديث حين خرج إلى العراق ومن قبل كان ابن جريج حمل عنه
والهدف من هذا البحث الوجيز ليس سرد حياة هذا الإمام الجليل بقدر ماهو محاولة للاستفادة من مواقف معينة في حياته تظهر لنا حقيقة محبته للرسول صلى الله عليه وسلم والنصرة الفعلية لدينه الحنيف .
1-محبتة مالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن المحب دائما يحن إلى موطن محبوبه ، لأنه يذكره به وتأنس روحه بالقرب منه ، ولهذا نقل عن امرئ القيس قوله وقد تعلق بديار ليلى :
أمر بالديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار و ذا الجدار
وما حب الديار سكن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
إذا كان هذا حال قيس مع مسكن ليلى فقط ، فكيف بنا والأمر يتعلق بحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .فقد تعلق الإمام مالك بالمدينة المنورة تعلقا شديدا فعاش عمره كاملاً بها،ولم يغادرها إلا حينما توجه إلى مكة حاجا أو معتمرا فقط. وكان درسه في المسجد النبوي وبالتحديد في أجمل مكان فيه: ما بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته - في الروضة- التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"رواه الشيخان من حديث عبد الله بن زيد المازني وأبي هريرة رضي الله عنهما.
وقد جلس مالك في الروضة لمدة سبعين عاما! وكان كثيرا ما يبكي بها عند حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: "لعلي أجلس مكانه". يمني النفس أن يطأ بجسده موضعا وطئه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ثم يبكي ويقول: "أمالك بن أنس الفقير الضعيف يُحدِّثُ في روضة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!" فيبكي حتى يقول الحضور: "أبقيت دموع؟!" ثم يقول: "قوموا عني، لا أستطيع أن أكمل".
ولشدة تعظيمه لحديث من أحب لم يحدث به إلا وهو متوضئ لأنه كان يشعر أن حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم عبادة.
وقد كان للإمام مالك مجلسين : أحدهما للفقه والآخر للحديث ،فكان تلاميذه يقرعون بابه فيقول لهم: "أي يوم هذا؟ يوم الفقه أم يوم الحديث؟" فيقولون: "يوم الفقه"، فيفتح لهم سريعا. فإذا كان يوم الحديث يتأخر، فيقولون له: "لما تأخرت؟" فيقول: "لأتطهر، وأتوضأ، وأتعطر من أجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وما يثير العجب في شدة تعلقه وحبه للرسول صلى الله عليه وسلم انه لم يركب في المدينة قط.
فقد بعث له هارون الرشيد مجموعة من الإبل كهدية فتصدق بها جميعا وأعطى واحدا لتلميذه الشافعي. فقال له الشافعي: "أبقِ واحدة لنفسك لتركبها". فقال مالك: "أنا لا أركب في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومع ذلك لم يحرمها على تلاميذه،
فالأمر لايتعلق بتحريم الركوب في المدينة بقدر ماهو تقدير وتعظيم لمن تشرفت ارض المدينة بأقدامه ، فكان يستحي أن تطأ دابته موضعا لامس قدم النبي صلى الله عليه وسلم .
2- رد البدعة
إن أول موجب من موجبات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم إتباعه، وهذا يتطلب السير على منهجه والذوذ عنه وعدم ابتداع أمر لم يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ،ولهذا كان الإمام مالك حازما في الرد عن المبتدعين بقوله " من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة ".
وهذا شيء خطير جدًا، ما الدليل يا إمام؟
قال الإمام مالك: اقرؤا إن شئتم قول الله تعالى:
((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً))
هذا إمام دار الهجرة يقول بلسانٍ عربيٍ مبين: "فما لم يكن يومئذٍ ديناً؛ فلا يكون اليوم ديناً".
وقال جعفر بن عبد الله : كنا عند مالك فجاءه رجل فقال يا أبا عبد الله [الرحمن على العرش استوى " كيف استوى فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرضاء ثم رفع رأسه ورمى بالعود وقال الكيف منه غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج]
3- الثبات على سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم :
تعرض الإمام مالك لمحنة وبلاء بسبب حسد ووشاية بينه وبين والي المدينة جعفر بن سليمان ويروى أنه ضرب بالسياط حتى أثر ذلك على يده فيقول إبراهيم بن حماد أنه كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه حمل يده بالأخرى، ويقول الواقدي لما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا بمالك إليه وكثروا عليه عنده وقالوا لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز عنده قال فغضب جعفر فدعا بمالك فاحتج عليه بما رفع إليه عنه فأمر بتجريده وضربه بالسياط وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه وارتكب منه أمر عظيم فوا الله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو، وهذه ثمرة المحنة المحمودة أنها ترفع العبد عند المؤمنين وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير ومن يرد الله به خيرا يصيب منه وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) كل قضاء المؤمن خير له وقال الله تعالى {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} (محمد:31) .
4- السير على وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم " يسروا ولاتعسروا "
من خلال استقراء الباحثين لمنهج الإمام مالك تبين لهم انه بنى جميع آرائه الفكرية على كلمتين: مصلحة الناس، والتيسير عليهم . . دائما ما كان يضع مالك بن أنس نفسه مكان الآخر. فكلنا يفكر في نفسه وفي أرائه واحتياجاته فقط. ولكن أفضل شخص هو الذي يضع نفسه مكان الآخر وينظر من زاوية الآخر. الأفضل هو الزوج الذي يضع نفسه مكان زوجته ليعلم سبب اختلافهما، الأب الذي يضع نفسه مكان ابنه المراهق ليعلم طريقة تفكيره واحتياجاته. يفكر مالك بهذه الطريقة. نبع فقه مالك من هاتين الكلمتين واستنبط منهما كلمتين شهيرتين "حيث المصلحة تجد الشرع". ستجد الآية والحديث أينما تجد مصلحة الناس.
أما القاعدة الثانية فهي أن "الأصل في الأشياء الإباحة". الإمام مالك يقول: "أن الفقيه هو الذي يبيح للناس بدليل، أما التحريم فالكل يُحْسِنُه". كان الإمام مالك يظل يقول: "لا أعلم" لمدة عام كامل، لأنه يبحث عن حل حلال ولا يريد أن يقول للمستفتي "حرام". هذا ما جمع الآلاف حوله لأنه يعطيهم ما فيه مصلحتهم. وحقيقة الناس أن كل فرد أسير مصلحته
يقول الإمام مالك: "يسألني السائل، فأتركه أسبوعا كاملاً، أفقد فيه شهيتي للطعام والنوم، أبحث له عن مخرج ومصلحة تفيده!" ومن المعروف أن أكثر من قال "لا أدري" هو الإمام مالك، لأنه لا يريد أن يقول على شيء "حرام" إلا أن يكون متأكدا مائة بالمائة حتى لا يعسر على الناس. " دعوة للتعايش" عمرو خالد
وأعتقد أن هذا أفضل سبيل لنصرة دين الله تعالى ونصرة رسوله الحبيب صلى الله عليه وسلم اليوم، أن نحمل مشعل الدعوة إلى دين الله برفق ولين كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم دون تشدد أو انحلال عن الدين .ولعل الإمام مالك نجح في هذا الأمر، حيث أم مجلسه تلاميذ من ثلاث قارات: آسيا، وأوروبا، وأفريقيا ، من عامة الشعب وخاصتهم : أربعة خلفاء وثلاثة أجيال اجتمعوا عليه وعلى فقهه؟ الشافعيّ من مكة، يحيى بن يحيى من الأندلس، أسد بن الفرات من تونس، شبطون من الأندلس، ابن الأشهب من مصر، العتيقي من فلسطين ...
وسنسوق نموذجا لطيفا يوضح سلاسة هذا الإمام وذكاءه في تبليغ الدعوة :
فقد روي أن هارون الرشيد أتى للمدينة ونزل بقصره في المدينة، وأرسل لمالك أن يأتي ليعلمه العلم، فقال مالك: "العلم يؤتى ولا يأتي". فقال هارون الرشيد: "إذًا آتيك، ولكن قل للناس أن ينصرفوا حتى أنتهي ثم يحضروا هم للدرس". فقال مالك: "يا أمير المؤمنين، إن العلم إذا اختص به الخاصة دون العامة، لم يستفد به لا الخاصة ولا العامة". فحضر هارون الرشيد للدرس. فأشار مالك لتلاميذه أن يجلس حيث انتهى به المجلس. فقام حاشية الخليفة بإعطاء الخليفة كُرسيا ليجلس عليه. فلم يعجب ذلك الوضع مالك، ولكنه ذكي وعاقل، فلم يقل شيئا وبدأ الدرس كما يبدأه كل مرة فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قال في الحديث القدسي: "من تواضع لي هكذا..."، وجعل ينزل بيده للأرض، "...رفعته هكذا"، ونظر إلى هارون وابتسم، فقال هارون: "خذوا الكرسي!" انظروا إلى ذكاء هذا الرجل الذي جعل الخليفة يطيعه ويضع المقعد جانبا، وكان من الممكن أن يقولها له بطريقة تثير غضب الخليفة فيحمل المقعد ويضربه به!
خاتمة
قديما قال الفاروق عمر- رضي الله عنه - " نحن في حاجة إلى قوم فعالين لاقوالين " . ونحن للأسف جيل كثر فيه القول وقل فيه العمل ‘ وهم كثر عملهم وقل كلامهم. وحتى عندما تكلموا نطقوا بالحكمة وأصابوا هدفهم بأسرع الطرق ، لأنهم صدقوا الله فصدقهم وأجرى الحق على أيديهم قبل ألسنتهم .فخلد ذكرهم وجعلهم قدوة لمن بعدهم . علينا أن نفعل حبنا لنبينا صلى الله عليه وسلم من خلال حياتنا ‘ كل في موقعه ومجال عمله ، ومادام الهدف واحدا : وهو الانتصار لله ورسوله فإننا حتما سنلتقي كما التقى سلفنا الصالح ومهما تنوعت أساليبنا ، فقط لايطعن بعضنا بعضا، ولا يسخر بعضنا من بعض ولنلتمس لبعضنا الأعذار، ونفترض حسن النية ونسعى لتعمير أوطاننا وإصلاح ذواتنا قبل اصلاح ذوات الآخرين .
المراجع
- ترتيب المدارك
- سير أعلام النبلاء. (8/103) مؤسسة الرسالة – ط 9
شريط مفرغ مع بعض الاختصار من أحد أشرطة سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني رحمه الله تعالى. رقم الشريط 94/1
والشريط موجود على الشبكة العنكبوتية في موقع طريق الإسلام
- شريط مفرغ للداعية عمرو خالد في سلسلة " دعوة للتعايش"
| |
الموضوعالأصلي : منهج السلف الصالح في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم – الإمام مالك بن انس نموذجا المصدر : منتـديات الشـارف الكاتب: