" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) " ( صدق الله العظيم ) .
قبل الهجرة كانت رحلة الإسراء وقد اقترب أوان التحرك إلى موقع جديد بعد أن بلغت الجولة المكية ذروة تعقدها . واحتاج مثل ذلك التحول الخطير إلى عملية امتحان قبله , تستخلص الصفوة المؤمنة التي تصلح لإجتياز معبر التحول , وتقدر على حمل تكاليف الجهاد في الجولة الصعبة التي كانت تنتظر الإسلام في دار هجرته . وفي الواقع التاريخي أن السنوات العشر الأولى من المبعث مضت تمتحن المسلمين الأولين بالفتنة والأذى والاضطهاد ِ. وقد تأخر الإذن لهم في القتال ريثما تتم عملية الإمتحان والتمحيص , فكان الثبات لوطأة الفتنة وجهد الحصار . يستصفى للإسلام جهده المخلصين . ثم جاءت آية الإسراء تتمة حاسمة لهذا الاستصفاء .
لم تكن الليلة في أولها تختلف عن ليال سابقات تتابعت على مدى سنين من ليلة المبعث :
طواغيت المشركين من قريش مجتمعون في دار الندوة يجورون ويدورون في حلقة مفرغة التماسا لوسيلة أو ثغرة ينفذون منها عبر الطريق المسدود .
والمصطفى صلى الله عليه وسلم قد أقام صلاة العشاء فيمن كان معه من آله وصحبه رضي الله عنهم وأوى إلى خلوته يتعبد ويتهجد كعادته في كل ليلة وما من أحد يتوقع أن يأتي الفجر القريب بجديد غير المعهود المألوف في أم القرى . ص 103
وبزغ نور الفجر , والمصطفى حيث تركه آله وأصحابة بعد صلاة العشاء وقام عليه الصلاة والسلام فصلى بمن معه ثم جلس فيهم بعد الصلاة يحدثهم أنه قد أسري به في ليلته تلك من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ... . واشرأبت إليه قلوبهم وشدت أسماعهم إلى حديث الإسراء ولو استطاعوا لأمسكوا أنفاسهم المبهورة لكي يخلص إليهم صوت نبيهم في أنقى صفائه وتفرده . وانتهى الحديث .
وران عليهم صمت خاشع , أخذهم فيه العجب كل مأخذ وهم يستعيدون فيما بينهم وبين أنفسهم حديث الإسراء ويحاولون أن يستوعبوا أبعاد رؤياه الباهرة ويتمثلوا مشاهده المثيرة . ولعلهم ما كانوا ليجرحوا هذا الصمت لولا أن رأوا النبي عليه الصلاة والسلام يقوم من مصلاه , آخذا طريقه إلى حيث كان أهل مكة قد بدأوا حركتهم اليومية مع مشرق الصبح .
عندئذ قامت " أم هانئ بنت أبي طالب " فتشبثت بابن عمها المصطفى صلى الله عليه وسلم . تضرع إليه ألا يحدث الناس بما رأى لئلا يكذبوه . وتلبث عليه الصلاة والسلام يسمع ما تقول بنت عمه وقد أدرك ما يساورها من قلق وخوف . ثم استأنف سيره ليلقى القوم مسلمين ومشركين بحديث الإسراء .
ماذا قال عليه الصلاة والسلام عن مسراه في تلك الليلة ؟ وما الذي نزل في الإسراء من آيات القرآن ؟
في صحيح الحديث المتفق عليه (1) تفصيل لرحلة الإسراء من بدئها في المسجد الحرام :
جاء جبريل أمين الوحي والمصطفى نائم , فأيقظه من نومه وحمله على البراق ـ دابة بين البغل والحمار ـ وانطلق يسري به حتى وصل إلى بيت المقدس , حيث وجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى , في نفر من الأنبياء عليهم السلام , فأمهم المصطفى للصلاة .
ومن الصحابة من يقتصر ـ فيما نقل ابن هشام عن ابن اسحاق في : السيرة النبوية ـ على هذه الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . ذهابا وأوبة .
ــــــــــــــــــــ ـــ
(1) أخرجه الشيخان : البخاري في " كتاب الأنبياء " ومسلم في " كتاب الإيمان " من الصحيحين .
ص 104
ومنهم كثير يروون معها قصة المعراج من بيت المقدس صعودا في السماء إلى سدرة المنتهى , ثم عودة إليه حيث ينطلق البراق ساريا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم . بالمسجد الحرام (1) .
وهذا الحديث مروي بإسناد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم , وقد يختلفون في بعض التفاصيل , لكن الحديث في جملته ليس موضع خلاف : ففي المكان الذي بدأ منه الإسراء هناك رواية تقول إن المصطفى كان نائما بالحجر حين أتاه جبريل فأيقظه , وتؤيدها آية الإسراء بصريح قوله تعالى : " من المسجد الحرام " . وهناك رواية أخرى عن " أم هانئ بنت أبي طالب " رضي الله عنها قالت :
" ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي . نام عندي تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة , ثم نام ونمنا , فلما كان قبيل الفجر أمنا صلى الله عليه وسلم , فلما صلى الصبح وصلينا معه قال : يا أم هانئ , لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي , ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه , ثم قد صليت صلاة الغداة معكم كما ترين " .
ومع نص آية الإسراء : " من المسجد الحرام " حمل المفسرون رواية أم هانئ على أن المسجد الحرام يمكن أن يتأول في معنى الحرم والحرم كله مسجد .
ولم يذكر القرآن الكريم تفصيلا لمشاهد الإسراء فليس في سورته إلا آيتها الأولى التي تحدد مجال الإسراء وغايته : " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) " ومعها آية الرؤيا من سورة الإسراء :
" .... وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ .... " فهل كان الإسراء من تجلي الرؤيا أو كان حقيقة بالجسد ؟ ذلك ما اختلف فيه الصحابة أنفسهم : في رواية عن " ابن عباس " رضي الله عنهما : " إنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وليست رؤيا منام " .
ورواية أخرى عن السيدة " عائشة أم المؤمنين " رضى الله عنها تقول :
ــــــــــــــــــــ ــــ
(1) انظر تفصيل الإسراء والمعراج في الصحيحين وفي السيرة النبوية الهشامية " 2/ 36 ط الحلبي .
ص 105
" ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسرى بروحه " . وقد نقل ابن إسحاق هذا الخلاف بين أن يكون الإسراء بالجسد حقيقة أو بالروح رؤيا ثم قال : " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يقول : " تنام عيناي وقلبي يقظان " . " والله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله . على أي حاليه كان : نائما أو يقظان , كل ذلك حق وصدق " (1) .
وكان ما أراد الله للإسراء برسوله من " فتنة للناس " وابتلاء لمن آمنوا منهم وللذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم وقد يكفي لبيان ما كان من فتنة الإسراء أن نقرأ ما نقل " ابن هشام " رواية عن أبن اسحاق : " فلما أصبح صلى الله عليه وسلم , غدا على قريش فأخبرهم الخبر , فقال أكثر الناس : " هذا والله العجب البين , والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة , أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة ؟ " .
" فارتد كثير ممن كان أسلم , وذهب الناس إلى أبي بكر ـ ولم يكن قد سمع بعد حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الإسراء ـ فقالوا له : - هل لك يا أبا بكر في صاحبك ؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة .
فقال لهم أبو بكر : - إنكم تكذبون عليه . قالوا : بلى ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس
قال أبو بكر : - والله لئن كان قاله ؛ لقد صدق . فما يعجبكم من ذلك ؟ فوالله إنه ليخبرني أن الوحي ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه , فهذا أبعد مما تعجبون منه " (2) .
وغير بعيد من رواية " السيرة " ما نقله " الإمام الطبري " في تفسيره :
ــــــــــــــــــــ ـــ
(1) ابن اسحاق : الهشامية 372 واقرأ معه : تفسير الطبري ِلآية الإسراء .
(2) ابن اسحاق : الهشامية 392 . ص 106
" قال المشركون من قريش : تعشى فينا ـ بمكة ـ وأصبح فينا , ثم زعم أنه جاء الشام في ليلة ثم رجع وأيم الله إن الحدأة لتجيئها في شهرين : شهرا مقبلة وشهرا مدبرة .... ما كان محمد لينتهي حتى يأتي بكذبة تخرج من أقطارها .
فأتوا أبا بكر فقالوا له : - هذا صاحبك يزعم أنه أتى الشام في ليلته فصلى ببيت المقدس ثم رجع .
فرد أبو بكر : أو قد قال ذلك ؟ والله لئن كان قاله لقد صدق .
فما جادلوه فيه قالها الصديق : - أصدقه بخبر السماء وحيا , والسماء أبعد من بيت المقدس ولا أصدقه بخبر بيت المقدس ؟ ثم أقبل أبو بكر حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله :
- يا نبي الله . أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة ؟
قال عليه الصلاة والسلام : نعم . فسأله أبو بكر أن يصفه له . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبي بكر , فكلما وصف منه شيئا قال أبو بكر : - صدقت . أشهد أنك رسول الله .
قال عليه الصلاة والسلام لصاحبه : - وأنت يا أبا بكر الصديق " (1) .
وحقق الإسراء آيته . فتنة وابتلاء وتمحيصا : نحى عن حزب الله من رابهم أمر الإسراء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم . وليس أعجب من الوحي يأتيه من الله سبحانه . واستصفى للإسلام جنده المخلصين ممن صح إيمانهم وصدقت عقيدتهم .
وصدق الله تعالى : " ... وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ..... "
................
(1) تفسير الطبري : جـ 15 " سورة الإسراء " . ص 107
مَعَ المُصْطفى صَلى اللهُ عَليْه وَسَلم.
دكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ
أستاذ التفسير والدراسات العليا كلية الشريعة بجامعة القرويين .
| |
الموضوعالأصلي : الإسراء. المصدر : منتـديات الشـارف الكاتب: