المبحث الثاني: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للغير
تعج كتب السيرة النبوية بصور شتى لمن كان يحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم ولما كان يحبه سواء تعلق الأمر بأهله وذويه ,أو بصحابته وقومه , أو ببعض الأمكنة والبقاع ,
أو بأشياء أخرى كانت تعجبه ويميل إليها من أطعمة و أشربة وألبسة وغيرها .
ولعله من الصعب الإفاضة في الحديث عن كل هذه الجوانب في مبحث واحد ,لذلك سنعمل إن شاء الله على الإشارة إليها بشكل موجز دون التقصير في أي جانب منها .
1-محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهله
أ– محبته صلى الله عليه وسلم لزوجاته
كانت خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها -أولى زوجاته صلى الله عليه وسلم ذاق معها طعم الزوجية مريئا, فلم يعرف معها زوجة طوال المدة التي عاشها وإياها وقد نافت على خمسة وعشرين عاما .ويمكن القول أنها الزوجة الوحيدة التي لم يتدخل في زواجها عنصر غير المحبة وإنشاء أسرة مثالية من غير اعتبار لما بينهما من فارق السن, بل لعل هذا الفارق كان ضروريا لمن فقد حنان الأمومة وعطف الأبوة وهو طفل ,وانس الرفيق وهو شاب , (1)ولذلك جاء في الحديث عن عائشة –رضي الله عنها - وقد غارت من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة وثنائه عليها فقالت " ما تذكر من عجوز قد أبدلك الله خيرا منها ؟فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لاوالله ما أبدلني الله خيرا منها ,آمنت بي حين كذبني الناس, وواستني بمالها حين حرمني الناس ,ورزقني الولد منها ولم يرزقنيه من غيرها "(2)
والملاحظ هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في معرض كشفه عن حبه للسيدة خديجة, لم يعرض لشئ من جمالها أوشبابها ,وإنما ذكر بنبل,ها ومتانة خلقها ,وعظمة وفائها, وسابقة إيمانها ,وهذا ما يفند ادعاءات المغرضين الذين قالوا بان دافع الجنس والشهوة كان واردا في زيجاته عليه الصلاة والسلام .(3)
ومن أجمل ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم في حفظه لحبها وذكره لعهدها انه كان عليه الصلاة والسلام يذبح الشاة ثم يبعثها في صدائق خديجة .(4)
وهكذا ظل هذا الحب النقي الطاهر يصاحب الرسول صلى الله عليه وسلم طول حياته دون أن يعتريه فتور ولانسيان ولاضعف ,حتى بعد وفاتها وتزوجه صلى الله عليه وسلم بغيرها كان لا يفتأ يثني عليها ولا يسام من الاستغفار لها – رضي الله عنها-
.................................................. ...............
1- " حب الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء " لعبد الله كنون ص.31
2- " السيرة الحلبية "3/401وروى البخاري طرفه الأول في صحيحه 5/111كتاب مناقب الأنصار.
3-" النبي محمد صلى الله عليه وسلم إنسان الإنسانية ونبي الأنبياء " لعبد الخطيب ص.354
4- انظر الأحاديث الواردة في ذلك في صحيح البخاري 5/111و112كتاب مناقب الأنصار.
بيد أن حبه صلى الله عليه وسلم لخديجة -رضي الله عنها - لم يمنعه من أن يحب باقي زوجاته اللواتي تزوج بهن فيما بعد وفي مقدمتهن عائشة بنت أبي بكر-رضي الله عنها - , التي كانت أحب إنسانة إليه بعد خديجة-رضي الله عنها - لما امتازت به من علم وأدب ومعرفة بالشعر وأيام العرب إضافة إلى شبابها وخفة روحها ومقام أبيها منه صلى الله عليه وسلم. فكان هذا مما جعله يتعاطف معها قلبا وقالبا , ناهيك عن ذكائها وفصاحتها وفقهها (1)وقد روت من الأحاديث مالم تروه امرأة غيرها من زوجاته صلى الله عليه وسلم وسواهن وعدت من المكثرين من الرواية عنه صلى الله عليه وسلم (2) .
ومن لطيف ما يروى في إعرابه صلى الله عليه وسلم عن حبه لها وتمسكه بها قوله لها " كنت لك كابي زرع في الألفة والوفاق لا في الفرقة والخلاء "فقالت عائشة " يارسول الله بل أنت خير لي من أبي زرع " (3).
وقد جسدت علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم مع عائشة الصورة المثالية لعلاقة
الزوجين المبنية على الحب المتبادل والانسجام والنشاط في الحضر والسفر.
فذات يوم كانت عائشة مع الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر فسابقها قالت " فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم (أي امتلأ جسمها) سابقته فسبقني فقال هذه بتلك " (4).
وحازت زينب بنت جحش -رضي الله عنها - على محبته صلى الله عليه وسلم بدليل قول عائشة -رضي الله عنها - " وهي التي كانت تساميني في المنزلة عند رسول الله (5)( أي تعادلني وتضاهيني في الحظوة والمنزلة الرفيعة ) " (6).
.................................................. ..................
1- "حب الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء "ص.40
2- فقد بلغ عدد ماروته 2210حديثا اتفق الشيخان على 174وانفرد البخاري ب 54حديثا ومسلم ب58(انظر تراجم الصحابة ص.146) .
3- " بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد" للقاضي عياض ص.11-12
4- السيرة الحلبية 2/602
5- المصدر السابق2/614
6- صحيح مسلم بشرح النووي 15/206
هكذا إذن كانت معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأزواجه محبة وتكريما وعشرة طيبة ,ومراعاة لعواطفهن,وحدبا عليهن وحرصا شديدا على العدل والمساواة بينهن (1) في السكن والنفقة والكسوة والمبيت والزيارات والوقت. فكان صلى الله عليه وسلم يخصص لكل واحدة منهن ليلة ,فإذا زارٳحدهن زار بعد ذلك جميعهن ,حتى في مرضه الأخير وهو أحوج إلى الاستقرار في بيت واحد لم يرض صلى الله عليه وسلم أن يستقر في بيت عائشة إلا بعد أن أذن له الجميع بذلك (2) .
ومع هذه الدقة في العدل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغفر الله من عدم عدله في المحبة فكان يقول " اللهم هذا قسمي فيما املك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" (3) .وقد نقل الإمام النووي -رحمه الله -إجماع المسلمين على أن محبته صلى الله عليه وسلم لهن لاتكليف فيها, ولا يلزمه التسوية فيها لأنه لاقدرة لأحد عليها إلا الله سبحانه وتعالى وإنما يؤمر بالعدل في الأفعال وهذا أمر ثابت (4).
ب- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأولاده
أما محبته صلى الله عليه وسلم لأولاده ذكورا وإناثا فقد حازت فاطمة الزهراء زهرة البيت النبوي وسيدة نساء العالمين –رضوان الله عليها - على محبة عظيمة من والدها حتى قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم " إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها "(5) وبشرها بأنها ستكون أول أهله لحوقا به فعن عائشة – رضي الله عنها -قالت " دعا النبي صلى الله عليه وسلم ابنته في شكواه التي قبض فيها, فسارها بشئ فبكت , ثم دعاها فسارها فضحكت .قالت :فسألتها عن ذلك. فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم فاخبرني انه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت, ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته اتبعه فضحكت " (6)
وكون فاطمة – رضي الله عنها -أحب بناته لايعني انه صلى الله عليه وسلم لم يحب باقي بناته: زينب ورقية وأم كلثوم, وإنما بحكم أنها كانت أصغرهن وأكثرهن ملازمة له وأحوجهن إلى حنانه وحبه فقد نالت هذا الفضل العظيم .
.................................................. .....
1- حب الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء ص.65
2- الرسول صلى الله عليه وسلم لسعيد حوى 1/163
3- رواه أبو داود في سننه 2/34كتاب النكاح باب في القسم بين النساء
4- انظر صحيح مسلم بشرح النووي 15/205-206
5- رواه مسلم في صحيحه 4/1903كتاب فضائل الصحابة باب "فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم "
6- رواه البخاري 4/579كتاب "فضائل الصحابة "باب رقم11
أما أولاده صلى الله عليه وسلم الذكور, فقد شاءت حكمة الله عزوجل أن لايعيش له ولد , فمات أبو القاسم وعبد الله , وقيل مات له قبل البعثة الطاهر والمطهر, وقد ولدا في بطن واحدة, ثم الطيب والمطيب, ثم عبد مناف, وكلهم من خديجة – رضي الله عنها -.ورزقه الله تعالى من زوجته القبطية مارية – رضي الله عنها -.إبراهيم الذي أحبه وتعلق به كثيرا , حتى انه صلى الله عليه وسلم عق عنه بكبشين يوم سابعه , وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره على المساكين .وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما ينطلق إلى بيت مرضعته خولة بنت المنذر(1)فيأخذه ويقبله ثم يرجع .ولما مات حزن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وقال " تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب " (2).
ج- حب الرسول صلى الله عليه وسلم لأحفاده
تبوأ سيدا شباب أهل الجنة: الحسن والحسين- رضي الله عنهما - مكانة عظيمة في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم , فكان يلاعبهما ويقبلهما ولا يتوانى عن الإفصاح عن حبه لهما, قال عليه الصلاة والسلام " اللهم إني أحبهما فأحبهما " (3) وروي عن البراء – رضي الله عنه -انه قال " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن على عاتقه يقول اللهم إني أحبه فأحبه " (4) .
ورأى الأقرع بن حابس- رضي الله عنه - النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن فقال "يارسول الله لي من الولد عشرة ما قبلت واحدا منهم "فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم " من لايرحم لايرحم "(5) .
وعمت هذه المحبة الحفيدات أيضا وفي مقدمتهن أمامة بنت زينب - رضي الله عنها -فقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها حبا شديدا وهذا ما يؤكده قول عائشة- رضي الله عنها - " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له هدية فيها قلادة من جذع فقال لأدفعنها إلى أحب أهلي إلي فقالت النساء ذهبت بها ابنة أبي قحافة (أي عائشة) فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب فعلقها في عنقها "(6)
.................................................. .............................
1- هي أم بردة خولة بنت المنذر الأنصاري زوجة الراء بن أوس ومرضعة إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه وسلم .
2- السيرة الحلبية 3/394
3- صحيح البخاري 4/587كتاب "فضائل الصحابة " .
4- صحيح البخاري .نفس الكتاب ونفس الباب .
5- رواه الترمذي في سننه 5/212باب "ما جاء في رحمة الولد" رقم الحديث1976
6- السيرة الحلبية 2/452.
وبجانب هذا لم يبخل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بحبه عن باقي أهله كجده عبد المطلب الذي كفله ورعاه منذ صباه , وعمه أبي طالب الذي وجد عليه كثيرا حين توفي حتى سمى ذاك العام "عام الحزن " ,ثم عمه حمزة أسد الله الذي كانت فاجعته فيه أكبر حين مثل به كفار قريش في غزوة احد . وابن عمه عقيل بن أبي طالب الذي قال له " يا أبا يزيد إني احبك حبين حبا لقرابتك مني وحبا لما كنت اعلم لحب عمي إياك " (1) وهكذا شانه صلى الله عليه وسلم مع سائر أهله .
2- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة
لقد أثنى الله تعالى على الصحابة عظيم الثناء فقال سبحانه ﴿حمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ﴾ (2)
وقال سبحانه ﴿لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ﴾ (3)
كما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبهم أو التعرض لهم بأذى فقال " لاتسبوا أصحابي فلو انفق أحدكم مثل احد ذهبا ما بلغ مد احدهم ولانصيفه " (4) وفي حديث آخر "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايقبل الله منه صرفا ولا عدلا " (5)
هذه الأدلة الشرعية توضح مكانة الصحابة من جهة ومحبة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم لهم وإلا لما حازوا كل هذه الثناء .
..........................................
1- السيرة الحلبية 1/432
2- سورة الفتح /الآية 29
3- سورة الفتح /الآية 18
4- رواه مسلم في صحيحه 4/1967كتاب "فضائل الصحابة " .ورواه أبو داود في سننه 2/518كتاب السنة .
5- رواه أبو نعيم في الحلية عن جابر .
ومن الصور الدالة على محبته صلى الله عليه وسلم للصحابة وشفقته عليهم, ما حدث في غزوة الخندق , فقد اشتد الجوع بالرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة , حيث لم يتناولوا طعاما مدة ثلاثة أيام , حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ربط بطنه بحجر, فلما رأى جابر بن عبد الله –رضي الله عنه - ذلك رق قلبه وأسرع إلى بيته وأمر زوجته بإعداد بعض الطعام للرسول صلى الله عليه وسلم , ثم ذهب ليدعو الرسول صلى الله عليه وسلم ليطعم هو وبعض من الصحابة على أن لايتجاوزوا اثنين أو ثلاثة نظرا لقلة الطعام, لكن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان أشفق على أصحابه من شفقة الأم على أولادها, و أبى أن يستأثر بالدعوة هو وقلة من الصحابة فدعا كل الصحابة إلى تناول الطعام في بيت جابر- رضي الله عنه -, فكانت المعجزة الإلهية والتأييد الرباني, حيث انقلبت شاة جابر الصغيرة إلى طعام وفير شبع منه مئات الصحابة وبقيت منه بقية كثيرة .
وكانت هذه الخارقة العجيبة تقديرا إلاهيا لمدى محبته صلى الله عليه وسلم لأصحابه وإعراضه عن الأسباب المادية وشأنها في جنب قدرة الله وسلطانه (1).
وقد خص الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بمزيد من الحب كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد إلى جانب ما عرف عن حبه للأنصار .
أما أبوبكر فكان صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وأحب رفيق له, آمن به وبرسالته , ولم يترك مشهدا من مشاهد الرسول الكريم إلا حضره ولازمه فيه يحميه بنفسه ويقف دونه في وجه الأعداء .
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لحسان- رضي الله عنه - :هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال: نعم .قال :قل وأنا اسمع. فقال :
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدو إذ صاعدوا الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وفي رواية فتبسم ثم قال :"صدقت يا حسان هو كما قلت " (2)
.................................................. .........................
1- انظر "فقه السيرة " لمحمد سعيد رمضان البوطي ص.229-230
2- السيرة الحلبية 2/214
ومن أبرز مظاهر هذه المحبة استبقاؤه له دون غيره من الصحابة كي يكون رفيقه في الهجرة إلى المدينة.وقد أكد الصديق – رضي الله عنه -أنه في مستوى هذه المزية التي أكرمه الله بها .فقد كان مثالا للصاحب الصادق بل والمضحي بروحه وبكل ما يملك من اجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم " إن آمن الناس علي في ماله وصحبته ابوبكر " (1) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا "لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبابكر ولكن أخوة الإسلام ومودته " (1).
أما عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - فلم يقل إيمانا وتضحية وحبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ,لذلك كان مقربا إليه ملازما له كأبي بكر قال الإمام علي - رضي الله عنه - وهو يترحم على الفاروق "ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت اسمع النبي يقول ذهبت أنا وأبوبكر وعمر ودخلت أنا وأبوبكر وعمر وخرجت أنا وأبوبكر وعمر " (2).
أما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقد عاش في بيت النبوة وتربى في كنف الرسول صلى الله عليه وسلم وتزوج ابنته فاطمة فلا غرو أن ينال محبة عظيمة من الرسول صلى الله عليه وسلم ,حتى انه كان إذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلمه احد سوى علي - رضي الله عنه - (3)ومما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم في حقه " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره وأعن من أعانه واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار " (4)
.................................................. ...........................
1- رواه البخاري في صحيحه 5/62كتاب "فضائل الصحابة "باب " قول النبي صلى الله عليه وسلم سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر "
2- رواه البخاري في صحيحه 5/72كتاب "فضائل الصحابة " باب رقم 36
3- رواه البخاري في صحيحه 5/72كتاب "فضائل الصحابة" باب رقم 36
4- "انظر تراجم إسلامية جليلة لكبار الصحابة والتابعين " محمود أمين النواوي ص.19
لكن الصحابي الذي استأثر بحب النبي صلى الله عليه وسلم حتى لقب ب"حب الرسول "
هو زيد بن حارثة ثم ابنه أسامة "الحب بن الحب ".
فقد بلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم لزيد أن اتخذه في البداية ابنا له قبل أن ينزل الوحي بتحريم التبني ,وقد اعترف زيد بهذا الحب العظيم حين سأله والده حارثة " كيف صنع مولاك إليك ؟"(1)فقال:" يؤثرني على أهله وولده ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت " (2)
وقد كان زيد خليقا بهذا الحب وجديرا به, فوفاؤه الذي لانظير له, وعظمة روحه وعفة ضميره ولسانه ويده ,كل ذلك وأكثر منه كان يزين خصال زيد بن حارثة أو "زيد الحب "(3) .
أما أسامة بن زيد فقد عرف ب"الحب بن الحب" وتلك منزلة فريدة يغبطه عليها سائر المسلمين, حتى انه احتل رتبة الحب بعد ابنته فاطمة وقبل علي بن أبي طالب. ويؤكد هذا ما روي عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - انه قال " بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد, فطعن بعض الناس في إمارته, فقال النبي صلى الله عليه وسلم :إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة وٳن كان لمن أحب الناس إلي وٳن هذا لمن أحب الناس إلي بعده "(4).وفي رواية أخرى " قد بلغني أنكم قلتم في أسامة وٳنه أحب الناس إلي " (5) .
.................................................. ........................
1- السيرة الحلبية 3/336
2- المصدر السابق1/439
3- " رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم "خالد محمد خالد ص.280
4- رواه البخاري في صحيحه 4/583كتاب "فضائل الصحابة"
5- رواه البخاري في صحيحه5/171كتاب "المغازي " .
ولما كان الحب الصادق تفانيا في سبيل المحبوب ورعايته والحفاظ عليه في الواقع البارز لافي حدود النظريات والفرضيات أو الشعور العاطفي المجرد فقد سجلت الأيام بعض الحوادث التي تدل على صدق الحب النبوي لأسامة .من ذلك ماروي عن عائشة- رضي الله عنها - أنها قالت " أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسح مخاط أسامة فقلت " دعني حتى أكون أنا التي أفعل "فقال " يا عائشة أحبيه فاني أحبه" (1) .
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يردف وراءه أسامة مرات عديدة في أثناء السفر(2) ,بل انه عليه الصلاة والسلام أخر الإفاضة من عرفات بعض التأخير من أجل أسامة الذي ذهب يقضي حاجته (3), وكان كذلك يستشيره في بعض الأمور, كاستشارته في أمر عائشة- رضي الله عنها - لما سرى حديث الافك .وكان صلى الله عليه وسلم يقبل شفاعته في بعض القضايا ما لم تمس الشفاعة مبدءا من مبادئ الإسلام الكبرى (4) .
وبهذا أصبح زيد وابنه مثلين رائعين ورمزين خالدين للحب الخالد والعاطفة المخلصة الصافية .فهنيئا لهما بهذا الفضل العظيم (5).
أما الأنصار فنظرا لفضلهم المتمثل في إيوائهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين ,والقيام بأمرهم ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم ,فقد استحقوا بذلك أن ينالوا عظيم محبته صلى الله عليه وسلم ,حيث حذر عليه الصلاة والسلام من بغضهم وحث على حبهم ,حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق (6) فقال عليه الصلاة والسلام " آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار" (7)
.................................................. ........................
1- "تهذيب تاريخ دمشق الكبير" لابن عساكر 2/398
2- انظر "فتح الباري "8/81ومسند الإمام احمد 5/207
3- انظر " أسامة بن زيد حب الرسول صلى الله عليه وسلم " للدكتور وهبة الزحيلي ص.34
4- انظر "صحيح البخاري" 4/583كتاب "فضائل الصحابة "
5- "أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم "ص.23
6- انظر "فتح الباري "1/62-63
7- صحيح البخاري 1/71كتاب الإيمان باب "علامة الإيمان حب الأنصار "
كما أن حديث الجعرانة (1)يقف شاهدا على هذه المحبة, حيث خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار حين بلغه أن بعضهم قد وجد على نفسه مما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حيث خص المؤلفة قلوبهم – وهم أهل مكة – بمزيد من الغنائم والأعطيات يتألف قلوبهم على الإسلام بقوله " ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار " (2) .
إن هذا الخطاب ليفيض بمعاني الرقة والذوق الرفيع ومشاعر المحبة الشديدة للأنصار ,وهو يفيض في الوقت ذاته بدلائل التألم من أن يتهم من قبل أحب الناس إليه بنسيانهم والإعراض عنهم .وقد أحس الأنصار بهاته المعاني الرقيقة الصادقة مما جعلهم يذرفون الدموع فرحا بنبيهم وابتهاجا بقسمتهم ونصيبهم .فأي برهان منه عليه الصلاة والسلام ينطق بالوفاء وخالص المحبة والود أكثر من هذا ؟ثم متى كان المال في ميزان رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلا على التقدير والحب ؟ (3) .
3- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الأمكنة والبقاع
تعتبر مكة المكرمة أحب الأمكنة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ,كيف لا وهي مسقط رأسه ,وبلده الذي نشأ وترعرع فيه, يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين اضطر للخروج منها " اللهم ٳنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك " (4) .
وقد استند إلى هذا الحديث من قال بتفضيل المدينة على مكة لأن الله تعالى أجاب دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فأسكنه المدينة وهذا رأي جمهور العلماء, ومنهم الإمام مالك – رضي الله عنه -.في حين ذهب الإمام الشافعي- رضي الله عنه - وغيره إلى تفضيل مكة على المدينة اعتمادا على قول الرسول صلى الله عليه وسلم " والله إني لأعلم أنك خير أرض وأحبها إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ماخرجت " (5)
.................................................. ..............................
1- الجعرانة اسم المكان الذي جمعت فيه غنائم المسلمين في غزوة حنين وسمي المحل باسم امرأة كانت تلقب بذلك وقيل هي التي نقضت غزلها من بعد قوة ( انظر السيرة الحلبية 3/75)
2- صحيح البخاري 5/99-100كتاب "مناقب الأنصار باب رقم 63
3- "فقه السيرة "للبوطي ص.397-398بتصرف .
4- السيرة الحلبية "2/196
5- المصدر السابق 2/196-197
وأحب الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك جبل أحد فقال فيه "أحد جبل يحبنا ونحبه " (1)وقد علق ابن الأثير على هذا بقوله " هذا محمول على المجاز أراد انه جبل يحبنا أهله ونحب أهله وهم الأنصار ويجوز أن يكون من باب المجاز الصريح أي أننا نحب الجبل بعينه لأنه في أرض من نحب (2) .
وقال علي بن برهان الدين الحلبي " لامانع أن تكون المحبة من الجبل على حقيقتها وضع الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال المسبحة مع داود عليه السلام وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال فيها سبحانه (وان منها لما يهبط من خشية الله )"(3).
4- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الأطعمة والأشربة والألبسة وغيرها
باستقراء النصوص المبثوثة في كتب السيرة والشمائل والحديث يتضح لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب من الشاة الذراع والكتف, ومن التمر العجوة, ومن البقول الهندباء*والشمرة **وكان يحب الزبد والتمر والحلواء والعسل واللبن والقثاء ***.وكان يكره أكل الكليتين لمكانهما من البول .وكان يحب من الألبسة القميص والحبرة ****
كما كان صلى الله عليه وسلم يحب السواك خاصة ضريع الأرك ,حتى انه طلب أن يستن به وهو على فراش الموت .كما أحب عليه الصلاة والسلام الخيل فكان يوليها عناية كبيرة .وقد روي أنه مسح وجه فرسه ومنخريه وعينيه بكم قميصه فقيل له يارسول الله تمسح بكم قميصك ؟فقال "إن جبريل عليه السلام عاتبني في الخيل (4)
.................................................. ..................
1- رواه البخاري في صحيحه 5/205-206 كتاب المغازي باب "احد يحبنا ونحبه "
2- "لسان العرب 2/743و"تاج العروس"2/215
• الهندباء يقال الهندب والهندبا والهندباء وهو معروف يؤكل
• الشمرة والشماروهونبات أصغر الزهر له حب مخضر مستطيل
• القثاء نوع من النبات ثمره يشبه الخيار
• الحبرة هي ثياب من نوع برود اليمن تتخذ من كتان أو قطن محبرة أي مزينة .
3- السيرة الحلبية 2/487
4- السيرة الحلبية 3/431
5-أمور حببت للرسول صلى الله عليه وسلم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة "(1)
فقد حبب لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم النساء ,وهذا الحب له جانبان: جانب طبيعي: وهو الذي ينصب على نسائه أمهات المؤمنين, وجانب إنساني :يتمثل في عطفه على النساء عامة وحثه على إكرامهن وعدم ٳهانتهن (2) قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع "فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله لكم عليهن أن لايوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " (3) .
وحب النساء يدل من جانب آخر على " صفاء النفس وكمال السوية واعتدال الطبيعة وتمام الرجولة فما أكرمهن إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم " (4)
والحكمة في تحبيب النساء للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينقلن محاسنه ومعجزاته الباطنة والأحكام السرية التي لايطلع عليها غالبا غيرهن وغير ذلك من الفوائد (5) .
.................................................. .......
1- رواه الإمام احمد في مسنده 3/128-199-285
2- "حب الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء ص.74
3- "فقه السيرة "للبوطي ص.440
4- "حب الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء ص .22
5- السيرة الحلبية 2/434
أما الطيب فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يحب الرائحة الحسنة الطيبة ويستعملها ويحض عليها وكان أحب الرياحين إليه الفاغية * (1) وإنما حبب إليه الطيب لملاقاته للملائكة لأنهم يحبونه ويكرهون الريح الخبيث (2) .
وحبب إليه صلى الله عليه وسلم الخلوة فكان يخلو بغار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد (3) وإنما حبب إليه ذلك لما في الخلوة من المزايا فهي تفرغ القلب عن أشغال الدنيا وتوجهه للتدبر في ملكوت الله فيصفو قلبه وتشرق عليه أنوار المعرفة (4) .
كما حبب إليه صلى الله عليه وسلم الجمال فقال عليه الصلاة والسلام " إني رجل حبب إلي الجمال وأعطيت منه ماترى " (5) .وحبب إليه والوضوء الصلاة والدلائل في ذلك كثيرة .
كما كان عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن يحبب إليه الإيمان فيقول " اللهم حبب إلينا الإيمان " (6)
والمدينة المنورة فيقول " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو اشد " (7)
.................................................. .......
• الفاغية هي نور الحناء وقيل غصن الحناء يغرس مقلوبا فيخرج زهرا أطيب من الحناء وقيل هي نور كل ماله رائحة طيبة
1- " وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم " للنبهاني ص.53
2- انظر السيرة الحلبية
3- صحيح البخاري 1/4كتاب " بدء الوحي " باب رقم 3
4- السيرة الحلبية 1/380
5- رواه أبو داود انظر "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي "1/405
6- رواه الإمام احمد في مسنده 3/424
7- صحيح البخاري 5/149كتاب "مناقب الأنصار " باب " مقدم النبي وأصحابه المدينة " .
| |
الموضوعالأصلي : محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للغير المصدر : منتـديات الشـارف الكاتب: