المبحث الثالث
محبة الغير للرسول صلى الله عليه وسلم
لن نغالي إذا قلنا أن أحدا من البشر لم ينل الحب والإعجاب اللذان نالهما الرسول صلى الله عليه وسلم ،بل إن صور المحبة المروية تكاد تبلغ العجب ، لكنها لاتجانب الصدق ولا تنحو نحو الكذب ،بل هي صور مشرقة ساطعة كتبها الصحابة الكرام – نساء ورجالا – بدمائهم وتفانيهم في حب من بعثه الله تعالى رحمة للعالمين .
1- محبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحب الصادق ليس مجرد حديث عابر أو عاطفة قلبية مجردة ، بل هو عمل وتفان في سبيل إرضاء المحبوب وحمايته وإتباعه ونصرته .وهذا ما أكده الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – في الحرب والسلم ،وفي العسر واليسر ، وفي كل حركة تحركها الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم .مما جعل عروة بن مسعود يقول وقد رأى عظيم التقدير والمحبة التي يحف بها الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم "إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه ..وإني ما رأيت في يقوم قط مثل محمد في أصحابه "(1) .
فماذا رأى عروة ؟ بل ماذا رأى غيره ممن قال مثل هذا الكلام وجعلهم يندهشون لهذه العلاقة العجيبة والتي لايمكن أن توجد إلا بين محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه ؟
لقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم إذا توضأ ابتدر الصحابة وضوءه وكادوا يقتتلون عليه، فلا تسقط قطرة إلا في يد إنسان، إن كانت قدر ما يشربها شربها ،وإلا مسح بها جلده .وإذا بصق بصاقا، أو تنخم نخامة، تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم (2) ولاتسقط منه شعرة إلا ابتدروها .فعن أ نس – رضي الله عنه – قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وقد طاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل " (3 )
.................................................. .....................
1- "الشفا " 2/88
2- المصدر السابق 2/87
3- "السيرة الحلبية " 3/329
وأعجب من هذا ماروي أن بعض الصحابة مص دمه صلى الله عليه وسلم كعلي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير ومالك بن سنان الخذري وأبو طيبة الحجام – رضي الله عنهم أجمعين – فعن عبد الله بن الزبير قال " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهويحتجم ،فلما فرغ قال: يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حتى لايراك أحد .قال فشربته .فلما رجعت قال: يا عبد الله ماصنعت ؟ قلت :جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى على الناس .قال لعلك شربته .قال نعم .قال ويل للناس منك وويل لك من الناس " (2) فكان بسبب ذلك على غاية من الشجاعة .
وقال صلى الله عليه وسلم لمالك بن سنان حين ازدرد دمه " من مس دمي دمه لم تصبه النار " (3) .أما الحديث الذي ذكره أبو عمر النمري في الاستيعاب " أن رجلا من الصحابة ازدرد دمه فقال له " أما علمت أن الدم كله حرام " فقد ضعفه العلماء وقالوا بأنه غير صحيح لايعرف له إسناد فلا يعارض ما قبله (4) .
كما انه لم ينقل عنه انه صلى الله عليه وسلم أمر من مص دمه بغسل فمه، ولا أنه غسل فمه من ذلك.ويستفاد من هذا أن دم الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف دم غيره في التحريم (5)
والمحب الصادق كذلك يترقب بكل شوق وحماس فرصة يتمكن فيها من بذل راحته ونفسه وما ملكت يمينه دون حبيبه ،.والمحبون الصادقون من الصحابة قد سجلوا أروع أمثلة الفداء والتضحية دونه صلى الله عليه وسلم ،والذين جاؤوا من بعدهم من محبيه يجدون في صدورهم حسرة كبيرة لفوات تلك السعادة العظيمة والأمنية الغالية .(6)
................................................
1 -السيرة الحلبية 2/516
2- المصدر السابق 2/516
3- المصدر السابق 2/515
4- انظر "الروض الأنف "3/166- "السيرة الحلبية " 3/516.
5- انظر "الروض الأنف "3/165.
6- انظر " حب النبي صلى الله عليه وسلم وعلاماته " للدكتور فضل الهي ص.43.
ولعل ساحات المعركة خاصة ساحة أحد ،قد سجلت أبدع صور التضحية والفداء ،حيث حام الصحابة الكرام حول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم المشهود يحمونه بأجسادهم من نبال المشركين وضرباتهم، يتساقطون الواحد تلو الآخر تحت وابل السهام، وهم في نشوة عارمة وحرص كبير على حفظ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم (1).
فقد ذكر أن أبا دجانة- رضي الله عنه - تترس * دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يقع النبل على ظهره وهو منحن حتى كثر فيه النبل (2) .
وقاتل مصعب بن عمير- رضي الله عنه - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
أما طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - فقد شلت يده حيث كان يقي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .فعن قيس بن أبي حازم قال "رأيت يد أبي طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد " (4) .فما أسعد هذه اليد التي شلت دفاعا عن أحب خلق الله تعالى، وما أسعد صاحبها .ولم تشل يده فحسب بل جرح كله حيث كانت به حوالي سبعين جرحة .وهذا ما رواه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حيث قال " ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار ** فإذا به بضع وسبعون أو اقل أو أكثر بين طعنة ورمية وضربة" (5) .
وقد كان الصديق- رضي الله عنه - إذا ذكر يوم احد بكى ثم قال " ذلك كله يوم طلحة " (6)
.................................................. ...............
1- انظر فقه السيرة ص.248
*تترس أي لبس الترس وهو صفحة من الفولاذ تحمل للوقاية من السيف ونحوه .
2- السيرة الحلبية 2/510
3- المصدر السابق 2/510
4-" صحيح البخاري " 5/85كتاب "فضائل الصحابة " باب – ذكر طلحة بن عبيد الله –
** الجفار جمع جفرة وهي حفرة في الأرض
5-" منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي " لأبي داود2/99- "فتح الباري "7/82-83
6-"منحة المعبود " 2/99.0ذ
ونشاهد محبا صادقا آخر، وهو من جرحى أحد أصيب بعشرات الضربات مابين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم لم يبق بينه وبين الدنيا وما فيها من أهل ومال ومتاع إلا لحظات.ففيما كان يفكر؟وما الذي كان يشغل باله ؟
لقد كان سعد بن الربيع - رضي الله عنه - في هذه اللحظات الأخيرة لايفكر إلا في الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي سلامته .وحين جاءه زيد بن ثابت - رضي الله عنه -يتفقده بين الجرحى ويبلغه سلام الرسول صلى الله عليه وسلم وسؤاله عنه حمله رسالة شفوية إلى قومه الأنصار يوصيهم فيها بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال " لاعذرلكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر يطرف "(1).ثم فاضت نفسه الطاهرة .
فهذا ماكان يفكر فيه سعد البطل فهل نحن كذلك ؟ فيم نفكر ؟وماذا يشغل بال كثير منا ؟وبما يوصي بعضنا أصحابه عند توديعهم ؟ (2)
وهاهي ذي صورة أخرى لهذه المحبة الخالدة يقدمها كل من زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي- رضي الله عنهما - .ففي سرية الرجيع*حين أمسك كفار قريش بزيد- رضي الله عنه - وأرادوا قتله قال له أبو سفيان: "أنشدك الله يازيد أتحب محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في اهلك؟" فقال: " والله ما أحب أن محمدا صلى الله عليه وسلم الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني لخالص في أهلي " فقال أبو سفيان " ما رأيت من الناس أحدا كحب أصحاب محمد محمدا "(3) .
ونقل مثل ذلك عن خبيب - رضي الله عنه - وهو مصلوب (4)
.................................................. ..........................
1-" المستدرك على الصحيحين " 3/201 كتاب " معرفة الصحابة " ذكر مناقب سعد بن الربيع
2- انظر "حب النبي صلى الله عليه وسلم وعلاماته "ص.57
*سرية الرجيع أو بعث الرجيع كانت في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة .
3-السيرة الحلبية 3/164
4-المصدر السابق .
وعندما اضطر النبي صلى الله عليه وسلم لمغادرة مسقط رأسه مكة، سأل الله عز وجل أن يحبب إليه موطنه الجديد المدينة.ولقد استجاب الحق سبحانه لدعائه .فهاهم الأنصار وقد سمعوا بمقدمه صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى ظاهرة المدينة ينتظرونه تحت لفح الشمس. حتى إذا انقضى النهار وجن الليل، رجعوا إلى منازلهم ليعودوا إلى الانتظار صباح اليوم التالي.وحينما طلع عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم جاشت العواطف في صدورهم وانطلقت ألسنتهم تهتف بالقصائد والأهازيج فرحا لمرآه صلى الله عليه وسلم .وخرجت ولائد بني النجار وهن ينشدن :
نحن جوار من بني النجار ياحبذا محمد من جار
فقال صلى الله عليه وسلم لهن أتحببنني؟ فقلن: نعم .فقال: "الله يعلم أن قلبي يحبكن "(1).
ولما شرف الله عز وجل الأنصار بصحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم في ديارهم، كانوا يضنون به خوفا من أن يحرموا من هذه النعمة العظمى والشرف الجليل (2) .ويدل على ذلك أنهم حين رأوا رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة وكف القتل عنهم ظنوا انه صلى الله عليه وسلم سيرجع إلى مكة والمقام فيها دائما ، ويرحل عنهم ويهجر المدينة المنورة .فشق ذلك عليهم .فأوحى الله تعالى إليه بذلك فأعلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم "كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله واليكم والمحيا محياكم والممات مماتكم "
فأقبلوا عليه يبكون ويقولون " والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله " (3).أي ما قلنا ذلك إلا حرصا عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا لنستفيد منك ونتبرك بك وتهدينا الصراط المستقيم (4) .
ومن محبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم إعظامهم جميع أسبابه وإكرامهم مشاهده ومكنته ومعاهده وكل ما له علاقة به صلى الله عليه وسلم (5)
………………………………………..
"فقه السيرة "ص.188
" حب النبي وعلاماته "ص.27
" صحيح مسلم " 3/1405كتاب "الجهاد" باب - فتح مكة – رقم الحديث 1780
انظر "شرح النووي " 12/128-129
" الشفا " 2/127
فعن صفية بنت نجدة – رضي الله عنها –قالت : " كان لأبي محذورة قصة في مقدم رأسه إذا قعد وأرسلها أصابت الأرض.فقيل له: ألا تحلقها ؟ فقال : لم أكن بالذي أحلقها وقد مسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده " (1) .
وروي أن قلنسوة *خالد بن الوليد– رضي الله عنه– شقت يوم اليرموك وهو في الحرب، فسقطت فطلبها طلبا حثيثا .فعوقب في ذلك فقال :" إن فيها شيئا من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها " (2) .
2- محبة الصحابيات للرسول
لم تقل محبة النساء للرسول صلى الله عليه وسلم عن محبة الرجال في التضحية والفداء ،.فقد شهدن المعارك وكن حنبا إلى جنب مع الرجال، لا في إسعاف الجرحى و إرواء الظمأى فحسب، بل حتى في حمل السلاح والذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم ،كأم عمارة المازنية– رضي الله عنها- التي جرحت يوم أحد اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف .وكانت تجول هنا وهناك حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقها " ما التفت يمينا ولا شمالا يوم احد إلا ورأيتها تقاتل دوني " (3) .
ولندعها تروي ما جرى في ذاك اليوم حيث تقول " خرجت يوم أحد لأنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، اسقي به الجرحى فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والربح للمسلمين ،فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف ،وأرمي عن القوس حتى حصلت إلي الجراحة "(4)
وكما ظهرت من المؤمنات الصادقات نواذر الحب والتفاني أثناء معركة أحد ،فقد ظهرت منهن أيضا بعد المعركة ،حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة ،حيث مر عليه السلام بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد فلما نعوا لها قالت : " فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟" قالوا : " خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين " قالت: "أرونيه حتى أنظر إليه " فأشير إليها حتى إذا رأته قالت " كل مصيبة بعدك جلل " (5) .
.................................................. ......................
1-" الشفا " 2/127
• القلنسوة نوع من ملابس الرأس وهو على هيئات متعددة .
2- السيرة الحلبية 3/329
3- السيرة الحلبية2/509
4- السيرة الحلبية2/509
5- السيرة الحلبية2/542
وجاءت إليه صلى الله عليه وسلم أم سعد بن معاذ– رضي الله عنه– تعدو وسعد آخذ بلجام فرسه فقال: يارسول الله أمي فقال صلى الله عليه وسلم :مرحبا بها .ووقف لها ،فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ فقالت " أما إذ رأيتك سالما فقد اشتويت المصيبة * "(1)
ومن أعجب ما روي في محبة النساء للرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكره القاضي عياض – رحمه الله تعالى - أن امرأة قالت لعائشة – رضي الله عنها– " اكشفي لي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم " فكشفته لها فبكت حتى ماتت (2) .
وأعجب من هذا ما روي أن بعض الصحابيات شربن بوله كحاضنته أم أيمن– رضي الله عنها– التي قالت " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخارة تحت سريره فبال فيها .فقمت وأنا عطشى ،فشربت ما في الفخارة وأنا لاأشعر .فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يا أم أيمن قومي إلى تلك الفخارة فأهرقي مافيها .فقالت :والله لقد شربت ما فيها .فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال :لاتلج النار بطنك "(3).
كما شرب بوله صلى الله عليه وسلم امرأة أخرى يقال لها بركة الحبشية (4) وكانت تكنى بأم يوسف .فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال لها " صحة أم يوسف " (5) فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه .
3- محبة التابعين للرسول صلى الله عليه وسلم :
عمل التابعون على الاقتداء بسلفهم الصالح في محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره تحقيقا لقوله تعالى ﴿ إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ﴾ (6)
.................................................. .........................
* اشتويت المصيبة أي استقللتها
1- "السيرة الحلبية " 2/546
2- " الشفا " 2/23
3- "السيرة الحلبية" 2/515
4- هي بركة بنت تعلبة بن عمرو.وقيل بنت يسار الحبشية كانت تخدم أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم
5- "السيرة الحلبية" 2/516
6- سورة الفتح الآيتان 8و9
إذ أن تعظيمه صلى الله عليه وسلم ليس مقتصرا على حياته فقط،، بل ينبغي أن يمتد حتى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.قال القاضي عياض – رحمه الله تعالى - " اعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته ، ذلك عند ذكره وذكر حديثه، وسننه، وسماع اسمه ،وسيرته، ومعاملة آله وعترته ،وتعظيم أهل بيته،وصحابته " (1) .
ومن صور هذا التعظيم ما رواه مصعب بن عبد الله– رضي الله عنه– (2) عن مالك بن انس – رضي الله عنه– أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تغير لونه وانحنى حتى يصعب على جلسائه فقيل له يوما في ذلك فقال " لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون " (3)
وذكر القاضي عياض – رحمه الله تعالى - أن محمد بن المنكدر وكان سيد القراء ،لايكاد يسألونه عن حديث احد إلا بكى حتى يرحمونه (4) .
وكان جعفر بن محمد كثير الدعابة والتبسم ،فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر (5) .
وقد بلغ من توقيرهم للرسول صلى الله عليه وسلم أن عظموا حديثه غاية التعظيم فكرهوا أخذه وهم قيام أو مضطجعون.وكان المحدث لايتصدر حلقة الدرس إلا بعد أن يتوضأ ويرتدي أجمل ثيابه ويتهيأ لهذا المجلس العظيم .
فمما روي عن مالك– رضي الله عنه– أنه كان إذا أتاه الناس، خرجت إليهم الجارية تسألهم :هل يريدون الحديث أم المسائل .فإن قالوا المسائل خرج إليهم، وإن قالوا الحديث دخل مالك مغتسله واغتسل، وتطيب ،ولبس ثيابا جددا ،وتنصب له منصة فيجلس عليها وعليه الخشوع ،ولايزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .فلما سئل عن ذلك قال " أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ول أحدث به إلا على طهارة متمكنا " (6) ..
.....................................
1- " الشفا " 2/91
2- هو مصعب بن ثابت الزبيري يروي عن مالك ( انظر ترجمته في كتاب الشفا 2/93)
3- " الشفا " 2/94
4- المصدر السابق
5- المصدر السابق
6- " الشفا " 2/100
وأعجب من هذا ما رواه عبد الله بن المبارك– رحمه الله تعالى - (1) قال " كنت عند مالك وهو يحدثنا فلدغه عقرب ست عسرة مرة وهو يتغير لونه ويصفر ولايقطع حديث رسول لله صلى الله عليه وسلم.فلما فرغ من المجلس وتفرق عنه الناس قلت: يا أبا عبد الله لقد رأيت منك اليوم عجبا .قال :نعم إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " (2) .
إن سلفنا الصالح آمن بالله عز وجل ،وبالرسول صلى الله عليه وسلم ،وأحب الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم ،لأنه أيقن أن الإيمان بدون حب إيمان ناقص، والحب بدون إيمان لامعنى له .لذا فأنت أيها المسلم تحتاج إلى الركنين معا الإيمان والحب .لايكفيك أن تدعي الإيمان بما ينبغي الإيمان به من أمور العقيدة حتى يمتلئ قلبك بمحبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أيضا " (3) آنذاك تستطيع أن تنسج صورا أخرى لمحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم لاتقل روعة عن تلك التي نسجها معلمونا الأوائل رضوان الله عليهم .
......................................
1- هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنطلي التميمي من أئمة الحديث وقد وصف بأنه جمع أبواب الخير كثيرا .ولد سنة 118هجرية وتوفي سنة 181هجرية .
2- " الشفا" 2/101
3- " فقه السيرة ص.248.
| |
الموضوعالأصلي : هكذا كان حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم المصدر : منتـديات الشـارف الكاتب: