ضياع النعم ... وكيف السبيل ؟
إن فقدان الأشياء وضياعها يصيبك أحيانا بقلق وأحيانا يكون مؤلما بقدر غلاء ذلك الشيء وقيمته عندك , وهذا الأمر قد يصادف الكثيرين في حياتهم , فمثلا عند ضياع محفظتك وما فيها من بطاقات وأوراق مهمة يتسبب لك في ألم وانشغال وكدر على هذا الحدث ويستمر معك أياما لعلك تجد ضالتك , فتجتهد في البحث في كل مكان وتستعين بكل من تعرفه ليشارك معك في البحث عنه حتى تجده وربما تمضي الأيام والليالي وما زال بجعبتك شيء من الأمل أنك ستجد المحفظة وما فيها من مقتنيات , ولكن إذا مضى عليك الأسبوع الأول ولم تجدها ضعف الأمل وتيقن لك أن عودة المحفظة هو أمر بعيد ويجب التوقف عن البحث , والتفكير من جديد في الشروع في طلب بطاقات جديدة بدلا من البحث وراء سراب .
فكيف إذا سرقت سيارتك من أمام منزلك وهي غالية الثمن وأعلنت عنها في كل أقسام الشرطة وبلغ عنها في كل مكان , ثم تمر الشهور والسنين وسيارتك الغالية لم تعد إليك , فربما صدرت لإحدى الدول المجاورة على شكل قطع غيار لتفكك هناك ثم تباع والله المستعان , وكيف إذا تم التحفظ على منزلك الخاص الذي تسكن فيه والذي لا تمتلك غيره بسبب ديون تراكمت عليك لسنين طويلة ثم جاء حكم القضاء والأمر ببيع المنزل وسداد الديون , وإذا بالبيت لن يعود إليك أبدا فكيف ستستقبل أنت وأبنائك هذا الخبر الصاعقة والذي سيضيفك رقما جديدا مع أرقام المستأجرين المتصاعدة لتعيش تحت رحمة تجار العقار , فهم في كل سنة لهم تسعيرة جديدة يتابعون بها إعلان الميزانية العامة للدولة وهم في شوق لخنق المواطن المحتاج الذي جرب سكن كل شيء حتى أسطح العمارات بينما كانت في السابق حكرا على الأشقاء العرب المقيمين , وأما اليوم فالمواطنين يتنافسون على سكن الملاحق في الأسطح لرخص أجارها عن باقي الأدوار .
إن كل شيء تفقده في هذه الدنيا لا بد له من أن يتسبب لك في ألم ولو كان بسيطا ولا بد من أن تتجاوزه حتى تمضي الحياة ولكن هناك من المفقودات ما يسبب لك ألاما شديدة وقد تصاحبك وقتا طويلا وتتجدد عليك مرارة الألم كلما تذكرت ذلك المفقود ألا إنه كل من فارقك من عزيز وغال من أقربائك وأحبائك عندما يزورهم هادم اللذات ويستوفي أرواحهم , فهنا المصيبة جلل والخطب عظيم , ولولا أن الله أمرنا بالصبر والتصبر لما أستطاع الإنسان أن يستمر في هذه الحياة الدنيا بالشكل الصحيح , وكم من أناس انهارت حياتهم بسبب تعلقهم بأشخاص ماتوا فجأة فصاروا من بعدهم محطمين لفترات طويلة , يقول الله تعالى ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) البقرة (155), وهنا تبين لنا الآية الكريمة أن كل نقص يتعرض له الإنسان إن كان في الأموال أو في الأنفس أو غيرها إنما هو اختبار له , فالمحفظة والسيارة وغيرها من نعم إلى النفس البشرية ضياعها وزوالها هو اختبار وامتحان في باب الصبر ليعرف الله مقدار ما عندك من رصيد الصبر فهل أنت من الشاكرين الصابرين الذاكرين أم أنك من المعترضين على قضاء الله وقدره ومن الرافضين والمعرضين عن التدثر بلباس الصبر .
إن نقص النعم يكون مختلفا من باب إلى باب أخر فنعم الله على العباد كثيرة ومتنوعة ولا يستطيع حصرها أحد من البشر يقول الله تعالى (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)إبراهيم (34) , بل أحيانا كثيرة يعجز عن شكرها الإنسان لكثرة تداخلها مع بعضها البعض ولا يحس بها حتى يفقدها ثم يحمد الله على قدره وقضائه , أما قبل ذلك فكان يستمتع بها ولا يشعر بها حتى فقدها , فنعمة البصر التي لا تقدر بثمن هل منا من يحمد الله عليها ويشكره كلما أستعملها في مصالحه قليلة كانت أو كثيرة , القليل من يفعل ذلك ولكن بعد أن يضعف بصره وينتقل إلى استعمال النظارة يتيقن له أنه قد أنقص من رصيده نعمه كان يرفل فيها سنين طويلة وهو لا يشعر , ومن توقفت عين واحدة تماما عن النظر فقد أنقص من رصيده أحدى النعم وبقي له واحدة يبصر بها , ومن تعطلت له كلية عن العمل وتركت له أخرى فقد أنقص من رصيده نعمه من النعم , ومن بترت له ساق فقد أنقص من رصيده نعمه كان يمشي بها سويا ولا يشعر بعظمة تلك النعمة , ومن فقد السمع في إحدى أذنيه فقد أنقص من رصيده نعمه وتركت له أخرى , ومن تعطلت عنده يد لا يستطيع حراكها فقد أنقص من رصيده نعمه كان يبطش بها ويستعملها في حاجته , ومن سقط له سن فقد أنقص من رصيده نعمة وترك له الباقي لأجل مسمى , ومن حبس عن النوم أنقص من رصيده نعمة كان منغمسا فيها , وهكذا باقي النعم الكثيرة في جسد الإنسان الواحد , فكيف بمن دخل في غيبوبة بسبب من الأسباب ولم يفق من تلك الغيبوبة فقد عطلت أغلب النعم ولم يبقى إلا قلبه النابض ونفسه الذي يطرد إلى أن يشاء الله .
إن الإنسان منذ خلق وهو يفقد النعمة تلو النعمة فترة بعد فترة وسنة بعد سنة وهو لا يشعر بها وهي تتناقص حتى يأتي اليوم ليودع تلك النعم كلها فيستوفي الله منه كامل النعم ويرثها منه يقول الله تعالى (وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) الحجر (23) , ولا يعطي تلك النعم لأحد يرثها من بعده ولو كانوا أقاربه , بل يفارق الحياة إلى غير رجعة ثم يحاسب على تلك النعم هل أدى شكرها أم أنه كان من ألاعبين , يقول الله سبحانه وتعالى ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ) النمل(73) .
وثبات النعم في الحياة الدنيا لا يكون إلا بالشكر له سبحانه وتعالى عليها وتسخيرها في مرضات الله قال تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم (7) , ومن العذاب الشديد في الدنيا أنه إذا عصى العبد ربه بتلك النعم سلبه تلك النعمة فمن سرق بيده فجزائه سلب تلك النعمة بقطعها ليذوق العذاب في الدنيا وعذاب الآخرة أشد , والقصاص في كل شيء بسلب النعم , والله سبحانه وتعالى لا يحب تعذيب العباد ولكن من عدله أنه يقتص للمظلوم من الظالم ليردعه حتى يترك طريق الظلم ويتجنبه , وترك الظلم هو من الإيمان وهو نوع من الشكر حيث أنه سخر نعم الله في مرضاته ولم يسخرها في ظلم الآخرين قال تعالى (مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) النساء(147) .
على المسلم أن يحافظ على نعم الله ولا يفرط فيها فلا شيء يعادلها في المنزلة وليس لها بديل , فإن قدر الله مثلا على زوال نعمة القدم بسبب حادث أو غيره فمن يأتيك بقدم تحملك من غير مشقة , لا بديل لتلك القدم غير قدم صناعية والفرق كبير بين القدمين , ومن أخذت عينه ووضع له عين صناعية فهل تغنيه عن الأصل ؟ , الجواب كلا ! والحمد لله رب العالمين , وكل بديل صناعي يكلف الآلاف من الأموال ولا يسد مكان النعمة الأصلية , فبعد هذا ألا تشكر الله أن وهبك كل هذه النعم من دون مقابل , ألا تشكره وتحمده وتثني عليه , ومن شكره أن تأتمر بأمره وتسجد له وتكون مع الراكعين , وإن لم تفعل ذلك فعليك بمراقبة النعم التي وهبك الله إياها وهي تفر منك واحدة تلو الأخرى ثم لن تلبث حتى تجد نفسك بين طيات القبر وحيدا مجندلا تقول ربي ارجعون , أسئل الله أن يلهمنا شكره وحسن عبادته قبل أن يتخطفنا الموت ونحن لا نشعر....والحمد لله رب العالمين .
| |
الموضوعالأصلي : ضياع النعم ... وكيف السبيل ؟ المصدر : منتـديات الشـارف الكاتب: