الفصل بين الدين والحياة
إن الله أنزل أحكامه وشريعته على المؤمنين في الأرض من أجل أن يعمل بها الناس ومن أجل أن تتبع ويقتدى بها قال تعالى ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) الزمر (55) , ولم يجعل الله للمؤمنين منهجين منفصلين لكل واحد منهما دار مخصوصة بل هي شريعة واحدة يعمل بها المسلم على هذه الأرض في كل مكان وفي كل زمان قال تعالى (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى (13) , وليس لأحد تعطيل أمر من أوامر الله فترة من الزمن ثم متى شاء عاد إليه إذا رغب , قال تعالى (وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) العمران (72) , أي أدخلوا في هذا الدين واعملوا بشرعه في أول النهار ثم انسلخوا عنه في أخره فبفعلكم هذا تكونوا قد سخرتم من هذا الدين فيهتز المؤمنين ويرتدوا بعد إيمانهم , وهذا هو كيد الكفار والمنافقين بالعبث والتلاعب بهذا الدين في كل زمان , والمنافق هو صورة خفية تعكس نفسية الكافر من الداخل فينكشف أحيانا مظهرا سلوكه الحقيقي ويستتر أحيانا مؤثرا السلامة .
إن كثيرا من المسلمين المخلطين تراهم يؤدون الصلاة ويصومون رمضان ويحجون ويعتمرون كما يفعل المسلمون الصالحون , ولكن في المقابل يأتون المنكر ويقعون فيه ولا يرون بأس بأن تفعل هذا وذاك , حتى ولو كان يعلم الواحد منهم حرمته , وحتى لو كان قادرا على تركه متكئا على الآية الكريمة " إن الله غفور رحيم " , " إن الحسنات يذهبن السيئات " , فإذا طلب منه مثلا أن يحجب زوجته وبناته فإنه لا يقبل أن يجعلهن يمتثلن لشرع الله في الأسواق وما شابهها ويقول هذا كبت للحريات , ولكن لا بأس بالحجاب إذا دخلت زوجته المسجد للصلاة فتراه يأمرها أن تضع على رأسها منديلا لتؤدي تلك الصلاة ثم إذا خرجت تركت شريعة الله ونزعت حجابها وكأن أوامر الله يختار لها أين تطبق , قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) النساء (150), فالكافر هو الذي يحب أن ينتقي من شريعة الله ما يناسب هواه ولا يحب أن ينقاد كاملا لله ومن شابه الكفار في خلق فهو مثلهم , يقول الله تعالى (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) المائدة(49) , فمن ظن أن أحكام الإسلام تطبق في أماكن معينة وتترك في أماكن أخرى فهو معاند لا يؤمن بالله العظيم , فالتي تنزع الحجاب إذا ركبت الطائرة وهي مسافرة إلى بلد غير مسلم ثم إذا عادت لبست الحجاب فهي تتقمص أخلاق المنافقين وتستر نفاقها بالحجاب في بلاد الإسلام , والذي يشرع بتحريم الخمر في الأسواق وفي الأماكن العامة ويبيحها في الفنادق والملاهي الليلية فهو منافق محارب لدين الله بسبب تفريقه في تطبيق شرع الله بين الأماكن العامة والأماكن الخاصة , وهذا هو عين الفصل بين تحكيم شرع الله في أماكن دون أماكن أخرى من غير دليل من الكتاب أو السنة .
ولقد تسربت هذه الأخلاق الفاسدة حتى طبع على قلوب الكثير من الناس بالنفاق فأصبح يعجبهم هذا التشريع الشيطاني وأصبح الناس يستسيغون رؤية بنوك ربوية وبنوك أخرى أسلامية في بلاد المسلمين فمن أحب الربا فليس عليه إلا تتبع شعارات البنوك ليعرف هل هو بنك أسلامي أم ربوي ثم يختار لنفسه ما يحب , ويصرح بعضهم لا دخل للإسلام في معاملاتنا المالية , وهناك أيضا تشاهد حرية في العبادات لتشاهد كنائس تبنى وترفع الصليب على أبوابها وبجانبها مساجد تؤذن وتدعوا للتوحيد والعبارة الدارجة كلنا مواطنون لنا نفس الحقوق , فأنتم يا مسلمون أعبدوا ربكم ونحن نعبد صليبنا المسيح , ويستدلون بقولة تعالى ( لكم دينكم ولي دين ) , فوجب على المسلمين بهذه النظرة الشيطانية أن يهتموا بالكنائس ويعظموها كما يعظموا المساجد ويجعلوا لها حرمة .
وهناك ممنوعات كثيرة في الأسواق ويتساهل فيها الناس ومنها الدخان الذي صار تواجده أيسر من تواجد بعض الأدوية في الصيدليات , وهو يباع في كل زقاق وفي كل بقالة والفتاوى بتحريمه كثيرة لما فيه من ضرر على صحة الناس وما ينتج عنه من أمراض خبيثة يتسبب فيها , ولكن تصاريح بيعه وترويجه والحماية القانونية له التي تدعمه تبطل كل أثر لفتاوى العلماء الشرعية , لأن المستفيدين من ذلك البلاء الكثير من المسئولين والتجار والدخل كبير جدا ويعد بالمليارات ولا بد للمفسدين من تعطيل حكم الله فيه , فمن شاء فليدخن ومن شاء فليترك فهي شريعة فصل الدين عن الحياة .
والعجيب أن سياسة الفصل بين الدين والحياة جرت في شريان الإنسان العادي مجرى الدم , فتشاهد التناقضات في حياته كثيرة , فتراه يصلي في المسجد ثم يخرج خارج المسجد ليدخن سيجارة فتكون أول معصية بعد طاعة , ويصف في الصلاة في الصف الأول ونغمة هاتفه الجوال موسيقى وأغاني تصدح بأعلى صوت في المسجد , ويصوم رمضان ويفطر على مسلسل راقص وغناء فاحش , وتجد صاحب البقالة الصغيرة يوفر جميع ما أحل الله من أطعمة ولا ينسى الدخان والمجلات النسائية الهابطة فيجعل لها ركنا خاصا ويقول هي من متطلبات البيع والشراء , فهؤلاء لديهم انفصام في الشخصية الإسلامية وفي تطبيق شرع الله ولا يحبون النقاء , وفي الحقيقة أنهم لا ينقصهم المعرفة بالحلال والحرام وخاصة في هذه السنين مع انتشار العلم والوعي بين الناس ولكنه يتصادم مع أهوائهم الشيطانية , ومن التجار المعروفين بتجارة القنوات الفضائية الخاصة تجد أنه يمتلك قناة غنائية راقصة تبث الفجور والفساد على المسلمين وفي المقابل عنده قناة شبه أسلامية تبث محاضرات دينية وقرآن وأناشيد وينادونه بالشيخ فلان , فهو يعمل في كل اتجاه , ذو الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بالوجه الذي يعجبهم .
بل تجاوز الأمر إلى الدعاة فبرز للناس دعاة حداثيين متساهلين في الدين من أجل أن يرضى عنهم أهل الانحراف فيسمعوا منهم ليكونوا لأنفسهم شعبية بينهم , فترى شكله حليق اللحية يخالط النساء لا يراعي حدود الله يفصل النصوص عن بعضها ليجد لنفسه حجة فيما يقول , وغالب المحرمات عنده مباحه أو مكروهه ويرى أن فيها خلاف بين العلماء , حتى لو كان فيها نص واضح فالمسألة عنده قابلة للتأويل وسيجد لها مخرجا , والمهم أن يكون له جمهور يحبه ويسمع له حتى لو أدى إلى ترك الكثير من شعائر الدين , وهذا والله مثال واضح في نجاح اختراق نظرية فصل الدين عن الحياة في نشاط أشباه الدعاة , و لم يستطيع هذا الصنف من الدعاة إلا أن ينزل عند رغبة التأهين ليكون لهم قائدا وشيخا , فكأن التأهين اشترطوا عليه أن يتنازل عن الالتزام وأن يقرب منهم كثيرا وسيتنازلون هم عن فسادهم قليلا , ولكن المسافة بينهم مازالت بعيدة فمن الخاسر في هذه المسألة , إن خسارة الدين هي الخسارة العظمى وليس تقليل الفساد عند الناس أعظم ربحا للداعية من خسارة نفسه , فالتأهين ربحوا قليلا بتخفيف انحرافهم ولكنهم لم يعبروا عبورا صحيحا والسبب هو هذا الداعية الذي ضللهم وصور لهم أن هذا هو الطريق الصحيح في الاستقامة ففاقد الشيء لا يعطيه , فلا هو ثبت على صلاحه بسبب تنازله الكثير وهم لم يجدوا قدوة صالحة ثابته على الحق تدلهم على الطريق , فالاثنين خاسرين .
لا تفتتن يا أخي المتأمل بكثرة الأتباع والمريدين حول أشباه الدعاة بل أنظر إلى نوعية الداعية , فإذا كان الأصل منحرفا فالأتباع على أثارهم كذلك , فإذا أردت أن تعتبر فانظر إلى الآلاف من الشيعة المضللين في تلك الحسينيات ثم أنظر بعد ذلك إلى شيخهم الضال يلطم خده , إن الغالب في أهل الصلاح وأهل التمسك بالدين أنهم قلة قليلة والواحد منهم " كالقابض على جمرة " , وهؤلاء هم الذين يسيرون على هدى من الله ونور من الكتاب والسنة , والباقي أخلاط يتخبطون ويتعثرون ولا يقبل أكثرهم النصيحة , فعليك أيها الداعية بخاصة نفسك فتمسك بالصراط المستقيم وبهدي سيد المرسلين , ثم بلغ من حولك من أهلك وقرابتك ثم توسع قدر المستطاع وأحذر أن تزل قدمك فتعطي شيء من دينك ولو قليلا بحجة أن الناس لا يحبون التشدد , فليس لك من الأمر شيء إلا البلاغ , " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " , وفي الحديث " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خيرا لك من حمر النعم " , فإذا استجاب لدعوتك شخص واحد وانتقل إلى المنهج الصحيح خير من ألف يتبعونك على المنهج الخاطئ , أسأل الله أن يبصرنا بعيوبنا ويلهمنا رشدنا ويسددنا فيما نقول ونفعل .... والحمد لله رب العالمين .
| |
الموضوعالأصلي : الفصل بين الدين والحياة المصدر : منتـديات الشـارف الكاتب: