صائم عن الدنايا
يرتقى المسلم بانسانيته الى ذروة الكمال , ويعلم أن الله ـ عز وجل ـ قد ميزه عن الحيوان , وجعل فيه أستعداد للسمو بروحه , والتحرر من أسر الشهوات وعبودية الغرائز .
وهو حين يمتنع بمحض أرادته عن تناول الطعام والشراب وأجابة الشهوات يثبت أن الأيمان صانع العجائب , وأن الأرادة هى الخاصة التى ميز بها الله ـ سبحانه ـ الأنسان عن غيره وفضله بها على كثير ممن خلق .
والمسلم يعلم أن الصوم عبادة أصيلة , فرضها الله على أهل الأديان السماوية جميعا , أختلفت طرائقها ... لكن كمال هذه الفريضة , ووضوح حقيقتها كان فى الأسلام
[ ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون , أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ] البقرة 183 , 184
وماكان الله ليشرع لعباده ولا أن يفرض عليهم تلك الفريضة ألا لحكمة بالغة وغاية مثلى , وليس لمجرد المشقة والحرمان , وأنما شرع الله الصيام ليصل بالنفس الى حقيقة التقوى .. فتسمو عن الدنايا , وترتفع عن ضرورات البشرية , وتتعلم كيف تسيطر على النوازع والغرائز , وكيف تستعصم عن نداء الفتنة , وداعية الشهوة .
فليس الهدف من الصيام هو أذلال النفس , أو القسوة عليها .. ولكن الغاية منه علاج النفس من أدوائها , فتكتسب أرادة حازمة وعزيمة صادقة , لا تتهافت على الشهوات , ولا تتهالك على الرغبات واللذائذ , بل تملك الصبر على الحرمان , والقوة فى مواجهة الغرائز , وتترقى من ذلك ألى الأبتعاد عن الرذائل وأجتناب الدنايا .
وهذا مايشير أليه قوله تعالى [ لعلكم تتقون ]
فالمسلم حين يمتنع طائعا عن الضرورات التى يحتاج اليها بحكم الغريزة , فأنه لا ريب يمسك عن المحرمات , ويجتنب المنكرات , وينشأ فى نفسه الضمير الحى , والوازع الخلقى , الذى يوجهه الى الخير ويعصمه من نزعات السوء ..
والمسلم فى صيامه يثبت قوة نفسه , وعلو قدرها , وأستعدادها للقيام بالواجبات , والأضطلاع بعظائم الأمور , كما يثبت قدرته على التغلب على الحاجات والأهواء , وأستعصامه عن الدنايا والسيئات .
فحين ينجح المسلم فى تجربة الصيام .. فهو على الكفاح فى سبيل الحق أقدر ...
أما اذا قصر عنه وضعف عن تكاليفه .. فهو فى ميدان الجهاد أجبن وأضعف ..
وليس على الصائم رقيب ألا الله تعالى ..
ومن هنا تنمو لديه ملكة مراقبة الله , والشعور بأطلاعه عليه , فتخفى من نفسه مظاهر الرياء , والتطلع ألى أعجاب الناس , والرغبة فى حب الثناء , وذلك بعض مايتعلمه المسلم من عظات الصيام ومعانيه
وقد بين الأسلام حدود الصيام التى يجب على المسلم أن يلتزمها ... فأن للصيام جانبا ظاهرا ,هو : الأمتناع عن المفطرات فى ساعات النهار ... ونعلم أنه أمر ميسور يقدر عليه الحيوان , ولكن المهم فى الصيام جانبه الروحى الذى جعله الأسلام الهدف الحقيقى لهذه الفريضة ومن هنا فأن المسلم الحق يتخذ من الصيام وسيلة لتطهير نفسه وتزكيتها ..
لإن من يغفل عن حقيقة الصيام , ولا يفطن الى حكمته , لا يعود صيامه عليه بثمرة , ولا ينال منه ألا التعب ..
والى هذا يشير الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجه فى أن يدع طعامه وشرابه ) رواه البخارى
ومن هنا لابد للصائم أن يتميز فى قوله وعمله , ويتخذ لنفسه سلوكا يتفق مع جلال العبادة وقدسية الأيمان ..
ولهذا يوجه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله ( أذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب , فأن سابه أحد أو قاتله فليقل أنى صائم ) رواه مسلم
وبذلك يرتقى المسلم , الى ذروة الأنسانية التى جعلها الله فى أحسن تقويم , ويقى نفسه شر غرائزه , ويفتح فيها طاقات الخير .. فما أجل معنى الصيام ! وماأقدس حقيقته ! وماأكرمه من سر بين العبد ومولاه .!
يقول الله تعالى فى حديث قدسى [ كل عمل أبن آدم له , ألا الصوم , فأنه لى وأنا أجز ى به , يدع شهوته وطعامه من أجلى ] رواه مسلم ... فهو تجربة حية تدل على صدق الأيمان وتحوله الى قوة قادرة على التوجيه والعمل ..
ولهذا فأن المسلم الذى يرعى حقيقة الصوم , ويحسن القيام بواجباته فيه .. ينال الأجر العظيم , وتشمله الرحمة الواسعة ..
فقد جعل الله تعالى الصيام بابا من أبواب الطهر , وسبيلا من سبل المغفرة التى تعفى آثار الخطايا ..
وفى ذلك يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( من صام رمضان أيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه ) رواه مسلم
والأمر كله يعود الى النية الصادقة والعزم القوى , ومتى خلصت النية للمسلم .. فأن الله يعينه على سلوك سبيل الخير , وييسر له مجانبة السيئات, ومحاربة الأهواء , ويقيه نزغات الشيطان , كما يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم : ( أذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن , وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب . وفتحت ابواب الجنة فلم يغلق منها باب , ويناد مناد : ياباغى الخير أقبل , وياباغى الشر أقصر , ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة ) رواه الترمذى
وهكذا نرى الصوم فى حقيقته رياضة للنفس , وأرتفاعا بالأنسانية الى أفق كريم , وجهادا كبيرا يطبع المسلم بطابع القوة , ويزيد من طاقته فى ميادين الكفاح .
ومن عجب ألا يفطن بعض المفتونين فى عصرنا الى هذه الحقيقة الجلية .. فيحاولون الغض من شأن الصوم , وأغراء المسلمين بالتلفت من قيوده بحجة الحفاظ على العمل .. وزيادة الأنتاج .
أن النفوس التافهة المشغوفة بالشهوات هى التى تحاول .. الأفلات من الصيام ولا تصبر على مشقاته , ونسى هؤلاء أن المسلمين الأولين الذين فهموا الأسلام حق الفهم , وعملوا به حق العمل , كانوا يرون فى الصيام عباده أيجابية لا الفريضة فحسب , بل وصوم التطوع الذى كانوا يحرصون عليه مختارين ... فلا عجب أن ظهرت فيهم البطولات , وحدثت منهم العجائب , فأن للصيام تربية تقوى الأرادة وتصهر العزيمة , وتدفع الى التضحية والفداء ..
أما حين نرى فى عصرنا جماهير المسلمين تستثقل تلك الفريضة وتفزع من مشقتها , وفيهم الشاب القوى , والصحيح القادر , ويجدون من يعذرهم ويسول لهم , فأنه لأمر يبعث الأسى فى النفس , ويكشف عما أصاب المسلمين فى عصرنا من وهن وأختلال.. فكيف يرجى من هؤلاء خير فى دينهم أو دنياهم .. !
بل أن هناك طوائف فى بعض المجتمعات الأسلامية تحرص على تضييع معانى الصيام وأحاطة لياليه بجو من الهزل والفجور , حتى تضيع معالم العباده فيه , وتمحى معانيه من نفوس المسلمين , وهذا لهو , حقير , ينبغى أن يتنزه عنه المسلم , وأن ينأى عن مواطنه , وأن يكون مثله الأعلى فى رمضان ماكان عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هدى كريم ..ولن أتحدث عن الأعلام فكلنا يعلم ماهو عليه ومن يديره ..
لقد كان من سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجعل من ليالى رمضان وأيامه موسما للخير , يفيض بأنواع الطاعات , ويكثر من العبادات , ويزيد فيه من الأحسان للخلق , وأشاعة المعروف .
فقد ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود الناس بالخير , وكان أجود مايكون فى رمضان ..
وكان جبريل ـ عليه السلام ـ يلقاه كل ليلة فيدارسه القرآن .. فأذا لقيه جبريل ـ عليه السلام ـ كان أجود بالخير من الريح المرسلة ) رواه الشيخان ..... وكان يقوم فى رمضان فيصلى ويتعبد , وكان يرغب الناس فى ذلك بقوله : ( من قام رمضان أيمانا وأحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه ) رواه الخمسة
هذا هو الصيام كما يفهم المسلم الحق .. سبيل من سبل التربية , وباب من أبواب الجهاد , ونظام حازم يطبع المسلم بطابع المبادرة والطاعة , ومهما قيل فى بيان معانيه وفهم أسراره , فلا نزال نتبين فيها جديدا ونبصر حكمة .. فهو عبادة فذة كما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ( عليك بالصيام فأنه لا مثل له ) رواه النسائى والحاكم وصححه
اللهم بلغنا رمضان وتقبل منا .. أنك أنت السميع المجيب .
| |
الموضوعالأصلي : صائم عن الدنايا / المصدر : منتـديات الشـارف الكاتب: