عمر بن عبدالعزيز
كَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ, يَعِظُ الْخَلِيفَةَ وَيُبْكِيهِ, وَيُحَبِّبُ إِلَيْهِ الرَّعِيَّةَ وَيَهْدِيهِ, فَفِى إِحْدَى السَّنَوَاتِ حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ -الْخَلِيفَةُ آنَذَاكَ- فَرَأَى الْخَلاَئِقَ بِالْمَوْقِفِ, فَقَالَ لِوَزِيرِهِ عُمَرَ: أَمَا تَرَى هَذَا الْخَلْقَ الَّذِي لاَ يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلاَّ اللهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُؤلاَءِ الْيَوْمَ رَعِيَّتُكَ، وَهُمْ غَداً خُصَمَاؤُكَ, فَبَكَى الْخَلِيفَةُ بُكَاءً شَدِيداً, وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَشَارُونَ, وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْوُزَرَاءُ النَّاصِحُونَ.
وَحِينَ وَلِيَ عُمَرُ الْخِلاَفَةَ وَهُوَ لَهَا كَارِهٌ, اسْتَعَانَ بِاللهِ فَأَعَانَهُ, وَإِذَا نَظَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْمَسْؤُولِيَّةِ وَرَآهَا مَغْنَماً, فَقَدْ رَآهَا الْخَلِيفَةُ عُمَرُ مَغْرَماً, وَمَسْؤُولِيَّةً وَهَمّاً, وَطَالَمَا بَكَى وَحُقَّ لَهُ الْبُكَاءُ لِعِظَمِ الْحَمَالَةِ الَّتِي يَحْمِلُهَا، وَهَذِهِ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَلِكِ تَقُولُ: «دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ وَهُوَ فِي مُصَلاَّهُ, يَدُهُ عَلَى خَدِّهِ، سَائِلَةً دُمُوعُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلِشَيْءٍ حَدَثَ؟ قَالَ: يَا فَاطِمَةُ إِنِّي تَقَلَّدْتُ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ r فَتَفَكَّرْتُ فِي الْفَقِيرِ الْجَائِعِ، وَالْمَرِيضِ الضَّائِعِ، وَالْعَارِي الْمَجْهُودِ، وَالْمَظْلُومِ الْمَقْهُورِ، وَالْغَرِيبِ الْمَأْسُورِ، وَالْكَبِيرِ وَذِي الْعِيَالِ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ، فَعَلِمْتُ أَنَّ رَبِّي سَيَسْأَلُنِي عَنْهُمْ، وَأَنَّ خَصْمَهُمْ دُونَهُمْ مُحَمَّدٌ r فَخَشِيتُ أَلاَّ تَثْبُتَ لِي حُجَّةٌ عِنْدَ خُصُومَتِهِ، فَرَحِمْتُ نَفْسِي فَبَكَيْتُ».
لَقَدْ عُرِفَ عُمَرُ بِخَوْفِهِ الْعَظِيمِ, وَتَعْظِيمِهِ أَمْرَ الآخِرَةِ, يَقُولُ مَكْحُولٌ: «لَوْ حَلَفْتُ لَصَدَقْتُ: مَا رَأَيْتُ أَزْهَدَ وَلاَ أَخْوَفَ للهِ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ»، وَتَقُولُ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَلَكِ: «مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَشَدَّ خَوْفاً مِنْ رَبِّهِ مِنْهُ، كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ، قَعَدَ فِي مَسْجِدِهِ، ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ يَبْكِي حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنُهُ، يَفْعَلُ ذَلِكَ لَيْلَهُ أَجْمَعَ»، وَيَقُولُ عَطَاءٌ: «كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَجْمَعُ كُلَّ لَيْلَةٍ الْفُقَهَاءَ، فَيَتَذَاكَرُونَ الْمَوْتَ وَالْقِيَامَةَ وَالآخِرَةَ وَيَبْكُونَ»
لَمْ يُضَيِّعْ عُمَرُ رَعِيَتَّهُ حِينَ زَهِدَ وَبَكَى, وَخَافَ مِنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلاَ, بَلْ دَفَعَهُ زُهْدُهُ وَخَوْفُهُ إِلَى الإِنْتَاجِ وَالْعَمَلِ, وَمُجَانَبَةِ الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ وَالْكَسَلِ, وَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا: انْتِشَارُ الْفُتُوحَاتِ فِي زَمَنِهِ, وَانْقِشَاعُ الْمُنْكَرَاتِ, وَإِغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ, فَلَمْ يُوجَدْ فِي عَهْدِهِ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ, فَقَدْ كَانَ يَأْتِيهِ الرَّجُلُ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ فَيَقُولُ: اجْعَلْهُ حَيْثُ شِئْتَ, فَمَا يَبْرَحُ حَتَّى يَرْجِعَ بِمَالِهِ كُلِّهِ لاَ يَجِدُ مُحْتَاجاً يَأْخُذُهُ.
لَقَدْ سَرَتْ نَزَاهَتُهُ عَلَى وُلاَتِهِ, وَسَرَى الزُّهْدُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ, وَأَلْزَمَ عَشِيرَتَهُ بِمَا أَلْزَمَ بِهِ نَفْسَهُ, وَلَقَدْ فَزِعَتْ بَنُو أُمَيَّةَ مِمَّا أَلْزَمَهُمْ بِهِ مِنْ رَدِّ الْمَظَالِمِ وَسِيَاسَةِ الْمَالِ، حَتَّى وَسَّطُوا عَمَّتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ مَرْوَانَ, فَقَدَّرَ لَهَا رَحِمَهَا وَحَقَّهَا, وَلَكِنَّهُ أَبَانَ لَهَا عَنْ سِيَاسَتِهِ وَعَظِيمِ مَسْؤُولِيَّتِهِ, وَمَازَالَ يُحَدِّثُهَا حَتَّى قَالَتْ: حَسْبُكَ فَلَسْتُ بِذَاكِرَةٍ لَكَ شَيْئاً, وَرَجَعَتْ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَأَبْلَغَتْهُمْ رِسَالَتَهُ.
نَعَمْ مَا كَانَ عُمَرُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِشَيْءٍ ثُمَّ يُخَالِفُهُ, وَحَسْبُكَ أَنْ تَعْلَمَ رَصِيدَهُ قَبْلَ الْخِلاَفَةِ وَبَعْدَهَا, فَهَذَا أَحَدُ أَبْنَائِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: «دَعَانِي الْمَنْصُورُ فَقَالَ: كَمْ كَانَتْ غَلَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ اسْتُخْلِفَ؟ قُلْتُ: خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، قَالَ: كَمْ كَانَتْ يَوْمَ مَوْتِهِ؟ قُلْتُ: مِائَتَا دِينَارٍ», وَيَقُولُ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: «النَّاسُ يَقُولُونَ مَالِكُ ابْنُ دِينَارٍ زَاهَدٌ، إِنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَتَرَكَهَا»،
| |
الموضوعالأصلي : نموذج رااائع للقياده (فتيات الدعوة الى الله) المصدر : منتـديات الشـارف الكاتب: